الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثم قوله: ألا بعدًا لعاد قوم هود دعاء عليهم بالهلاك، أي: ليبعد عاد بعدًا وليهلكوا والمراد به الدلالة على إنهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما حكى عنهم وذلك، لأن الدعاء بالهلاك بعد هلاكهم، ففائدته ما ذكر ثم اللام تدل أيضًا على الاستحقاق وعلى البيان كأنه قيل لمن؟ فقيل: لعاد.قال سعدى المفتى: ويجوز أن يكون دعاء عليهم باللعن.وفي القاموس البعد والبعاد اللعن انتهى.وفي الكفاية شرح الهداية اللعن على ضربين.أحدهما: الطرد من رحمة الله تعالى وذلك لا يكون إلا للكافر.والثاني: الإبعاد عن درجة الأبرار ومقام الصالحين وهو المراد بقوله عليه السلام: المحتكر ملعون لأن أهل السنة والجماعة لا يخرجون أحدًا من الإيمان بارتكاب الكبيرة وجاء في اللعن العام لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثًا، ولعن الله من غير منار الأرض.قوله محدثًا بكسر الدال معناه الآتي بالأمر المنكر مما نهى عنه وحرم عليه، أي: من آواه وحماه وذب عنه ولم يكن ينكر عليه ويردعه، ومنار الأرض العلامات التي تكون في الطرق والحد بين الأراضي وفي الحديث: لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهده، والواشمة، والموشومة، ومانع الصدقة، والمحلل، والمحلل له.الوشم هو الزرقة الحاصلة في البدن بغرز الإبرة فيه وجعل النيلة أو الكحل في موضعه، والواشمة: الفاعلة، والموشومة المفعول بها ذلك، وفي الحديث: لعن الله الراشي والمرتشى والرائش أي: الذي يسعى بينهما وفي الحديث: لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وأكل ثمنها ويكره للمسلم أن يؤجر نفسه من كافر لعصر العنب كما في الأشباه ويجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرًا لأن عين العصير عار عن المعصية، وإنما يلحقه الفساد بعد تغيره بخلاف بيع السلاح في أيام الفتنة، لأن عينه آلة بلا تغيير، يعني: يكره بيع السلاح أيام الفتنة إذا علم أن المشتري من أهل الفتنة لأنه يكون سببًا للمعصية وإذا باع مسلم خمرًا وقبض الثمن وعليه دين كره لرب الدين أخذه منه، لأن الخمر ليست بمال متقوم في حق الذمي فملك الثمن فحل الأخذ منه وفي الحديث: لعن المسلم كقتله.قال ابن الصلاح: في فتاواه قاتل الحسين رضي الله عنه لا يكفر بذلك، وإنما ارتكب ذنبًا عظيمًا وإنما يكفر بالقتل قاتل نبي من الأنبياء.ثم قال: والناس في يزيد ثلاث فرق، فرقة تتولاه وتحبه، وفرقة تسبه وتلعنه، وفرقة متوسطة في ذلك لا تتولاه ولا تلعنه وتسلك به مسالك سائر ملوك الإسلام وخلفائهم غير الراشدين في ذلك وهذه الفرقة هي المصيبة، ومذهبها هو اللائق بمن يعرف سير الماضين، ويعلم قواعد الشريعة المطهرة انتهى.وقال سعد الدين التفتازاني:
وباقي البحث فيه قد سبق في سورة البقرة ألا لعنة الله على الظالمين.قال في حياة الحيوان:إن الله تعالى لم يجعل الدنيا مقصودة لنفسها بل جعلها طريقة موصلة إلى ما هو المقصود لنفسه، وإنه لم يجعلها دار إقامة ولا جزاء وإنما جعلها دار رحلة وبلاء، وإنه ملكها في الغالب الجهلة والكفرة وحماها الأنبياء والأولياء والأبدال وحسبك بها هوانًا إنه سبحانه صغرها وحقرها وأبغضها وأبغض أهلها ومحبها ولم يرض لعاقل فيها إلا بالتزود للارتحال عنها وفي الحديث: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله ومن والاه وعالمًا أو متعلمًا ولا يفهم من هذا إباحة لعن الدنيا وسبها مطلقًا، كما روى أبو موسى الأشعري إن النبي قال: لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر أن العبد إذا قال: لعن الله الدنيا قالت: الدنيا لعن الله من عصى ربه وهذا يقتضي المنع من سب الدنيا ولعنها، ووجه الجمع بينهما أن المباح لعنه من الدينا ما كان منها مبعدًا عن الله تعالى وشاغلًا عنه كما قال: السلف كل ما شغلك عن الله سبحانه من مال وولد فهو مشؤوم عليك، وأما ما كان من الدنيا يقرب من الله ويعين على عبادته فهو المحمود بكل لسان المحبوب لكل إنسان، فمثل هذا لا يسب بل يرغب ويحب، وإليه الإشارة حيث قال: إلا ذكر الله ومن والاه وعالمًا أو متعلمًا وهو المصرح به في قوله: نعمت مطية المؤمن إلخ وبهذا يرتفع التعارض بين الحديثين.واعلم أن حقيقة اللعن هو الطرد عن الحضرة الإلهية إلى طلب شهوات الدنيا وتعب وجدانها وتعب فقدانها، فهو اللعنة الدنيوية وأما اللعنة يوم القيامة، فبالبعد والخسران والحرمان وعذاب النيران فالنفس إذا لم تقبل نصيحة هود القلب، وتركت مشارب القلب الدينية الباقية من لوامع النورانية وطوامع الروحانية وشواهد الربانية، وأقبلت على المشارب الدنيوية الفانية من الشهوات والمستلذات الحيوانية وثناء الخلق والجاه عندهم وأمثال هذا فقد جاء في حقها ألا بعدا أي: طردًا وفرقة وقطيعة وحسرة لها عصمنا الله، وإياكم من مكايد النفس الأمارة وشرفنا بصلاح الحال إلى آخر الأعمال والآجال. اهـ.
ومنه قوله تعالى: {يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامرٍ} في سورة [الحج: 27].وإتْباع اللعنة إيّاهم مستعار لإصابتها إيّاهم إصابة عاجلة دون تأخير كما يتبع الماشي بمن يلحقه.وممّا يزيد هذه الاستعارة حسنًا ما فيها من المشاركة ومن مماثلة العقاب للجرم لأنّهم اتّبعوا الملعونين فأتبعوا باللّعنة.وبني فعل {أتبعوا} للمجهول إذْ لاَ غرض في بيان الفاعل، ولم يسند الفعل إلى اللعنة مع استيفائه ذلك على وجه المجاز ليدل على أنّ إتْبَاعها لهم كان بأمر فاعل للإشعار بأنّها تبعتهم عقابًا من الله لا مجرّد مصادفة.واللّعنة: الطرد بإهانة وتحقير.وقرن الدنيا باسم الإشارة لقصد تهوين أمرها بالنّسبة إلى لعنة الآخرة، كما في قول قيس بن الخطيم: أومأ إلى أنّه لا يكترث بالموت ولا يهابه.وجملة: {ألاَ إنّ عادًا كفروا ربّهم} مستأنفة ابتدائية افتتحت بحرف التنبيه لِتهويل الخبر ومؤكدة بحرف: {إنّ} لإفادة التعليل بجملة: {وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة} تعريضًا بالمشركين ليعتبروا بما أصاب عادًا.وعدّيَ: {كفروا ربّهم} بدون حرف الجر لتضمينه معنى عَصَوْا في مقابلة: {واتّبعوا أمر كلّ جبّارٍ عنيدٍ}، أو لأنّ المراد تقدير مضاف، أي نعمة ربّهم لأنّ مادّة الكفر لا تتعدّى إلى الذات وإنما تتعدى إلى أمر معنوي.وجملة: {ألا بعدًا لعاد} ابتدائية لإنشاء ذمّ لهم.وتقدّم الكلام على: {بعْدًا} عند قوله في قصّة نوح عليه السّلام: {وقيل بعدًا للقوم الظالمين} [هود: 44].و: {قوم هود} بيان ل {عاد} أو وصف ل {عاد} باعتبار ما في لفظ: {قوم} من معنى الوصفية.وفائدة ذكره الإيماء إلى أنّ له أثرًا في الذمّ بإعراضهم عن طاعة رسولهم، فيكون تعريضًا بالمشركين من العرب، وليس ذكره للاحتراز عن عاد أخرى وهم إرَم كما جوّزه صاحب الكشاف لأنّه لا يعرف في العرببِ عاد غير قوم هود وهم إرم، قال تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بِعادٍ إرَم ذات العماد} [الفجر: 6، 7]. اهـ.
وهكذا يضرب المتنبي المثل بأن جلوس الواحد منا في الشمس؛ يجعل بشرة الأبيض تميل إلى السمرة ولا تسود بياض الشعر، لكن إن تركت شيئًا أسود في الشمس فترة لوجدته يميل إلى الأبيض؛ ويحدث ذلك رغم أن الفاعل واحد؛ لكن القابل مختلف.والحق سبحانه يقول هنا: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} [هود: 58].فلا تقل كيف نجوا من العذاب الجامع والعذاب العام؛ لأن هذه هي الرحمة.والرحمة كما نعلم هي ألا يمس الداء الإنسان من أول الأمر؛ أما الشفاء فهو يعالج الداء.
|